مقدمة
لا يستطيع الباحث التاريخي إنجاز عمل علمي له قيمة في تخصصه
دون إتقان للجغرافية التي هي علم المكان؛ فالزمان والمكان والإنسان هم العناصر
الأساسية الثلاثة التي تشكل منها الوجود البشري كله؛ ذلك أن التاريخ والجغرافيا
صنوان لا يفترقان منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر([1]).
وتظل مسيرة الفكر الجغرافي، هي الشغل الشاغل الذي يهم المتخصص
في علمي التاريخ والجغرافيا، ويجد الباحث الجغرافي المتخصص في متابعة هذه المسيرة
-وهي تمضي وتتطور على دروب الصواب في الاتجاه الصحيح- المعين المنهجي والفلسفي
الذي يشد أزر التوجه العلمي الجغرافي، ويسعف التجديد والتجويد في الأداء العلمي
الجغرافي، ويجاوب اتساع آفاق اهتماماته.
ولعل حركة الفكر الجغرافي في مسيرتها السوية واتجاهها الصحيح،
كانت بكل تأكيد رتيبة ومتأنية، بقدر ما كانت مستمرة وموضوعية ومتطورة، وصحيح أن
هذه المسيرة الفكرية الموضوعية المتطورة قد قطعت أشواطًا كبيرة على المدى الطويل،
تحت أضواء جهود بعض الأعلام الفذة والصفوة المرموقة من الجغرافيين المجتهدين الذين
سجلوا بكل تفوق الاضافات، وهم يتحملون مسؤولية توسيع وتعميق المعرفة الجغرافية([2]).
ومنها مطلب البحث عن "الكشاف الجغرافي" الذي يُرتب "المواضع"
وفق توابعها الجغرافية.
وقد تم الوقوف على أحد أقسام كشاف "بلدان البلدان" وهو
(المواضع الجغرافية وتوابعها بالأندلس)، وسيليه عمل علمي كبير استكمالا للكشاف، أقدمه
للباحثين وطلبة الدراسات العليا وخاصة المتخصصين في التاريخ الإسلامي؛ ليكون لهم
معينًا ودربًا مضيئًا لهم في عمل دراساتهم العلمية.
دوافع الدراسة وأهميتها:-
إن الباحث التاريخي يهتم بتحديد مواقع الأحداث التي لا يمكن
الكتابة عنها دون البعد الجغرافي؛ فضلا عن إثبات أسماء المواضع والأمكنة، ولا شك
أن المواضع الجغرافية لها تأثير فعال على أنواع النشاط الإنساني الذي يؤرخ له([3]).
ومن ثم فهنالك دوافع مختلفة للدراسة؛ تتبين معها أهميتها، ولعل أهمها:-
أولا: لقد رتب الجغرافيون الأوائل المواضع في معاجمهم الجغرافية حسب
حروف الهجاء، فتداخلت المدن مع القرى مع الكور مع بعضها البعض، بداية من ابن
خرداذبة (ت280هـ) صاحب كتاب "المسالك والممالك"([4])،
مرورًا باليعقوبي (ت بعد 292هـ) صاحب كتاب "البلدان"([5])،
والذي صنف على نفس عنوانه ابن الفقيه (ت340هـ) فسماه "البلدان"([6])
أيضًا، حتى "معجم البلدان"([7])،
لياقوت الحموي (ت626هـ) ومن جاء بعده من الجغرافيين كأمثال القطيعي (ت739هـ)
وكتابه "مراصد الاطلاع"([8])،
ومن بعده الحميري (ت900هـ) وكتابه "الروض المعطار في خبر الأقطار"([9]).
ومما لا ريب فيه أن تلك الكتب كانت تخضع عموما لنمط الكتابة
العربية الذي ساد مختلف حقول المعرفة في ذلك الزمن؛ فلم يكن التخصص مثلا مفهومًا
بالمعنى الحديث، ولذلك فكثيرًا ما كان مؤلفوها ليسوا بجغرافيين أصلا، وبالتالي فلا
يمكن أن نتوقع منهم أن يخضعوا لقواعد الكتابة الجغرافية بمفهومها الحديث. وربما
كان ذلك هو العامل الأول الذي جعل البعض منها يشكو من عيوب في منهجها الجغرافي.
ومثال ذلك ما ذكره كراتشوفسكي من أن أسلوب الجغرافيين الإقليميين العرب كان ينحو
إلى الوصف الجامع الشامل بدلا من العرض المفصل العميق للمناطق وترتيبها.
ثانيًا: كانت أهداف الجغرافيين، والذين كانت مؤلفاتهم موجهة أساسًا
لخدمة أغراض الإداريين والحكام والتجار بالدرجة الأولى؛ فقد كانت تغطي النقاط
التالية:-
-
وصف المدن وصفًا دقيقًا مفصلا قدر الإمكان مع نبذة عن تأريخها،
ومن بناها، ومن سكنها وأهم الآثار فيها.
-
دراسة طرق المواصلات من حيث اتجاهاتها وطوبوغرافيتها والمدن
التي تقع عليها والأبعاد بين تلك المدن ومدى درجة الأمن فيها.
-
الاهتمام بدرجة أقل بوصف الظواهر الطبوغرافية، والتركيز بصورة
أخص على مجاري المياه الأنهار والبحار والبحيرات.
-
الاهتمام بدرجة أقل بذكر الصناعات والزراعات والمعادن والأحوال
الاقتصادية.
-
سرد المعلومات التأريخية المتعلقة بالبلدان والمدن وحكامها.
وتشمل المعلومات التأريخية عادة الحديث عن سكان البلاد وأديانهم ومذاهبهم وعاداتهم
وتقاليدهم.
إلا أنه رغم كل هذه الإنجازات الطيبة إلا أن أحدًا منهم لم
يعتن بوضع يرتب فيه المواضع الجغرافية وفق توابع كل موضع، واكتفي بعنايته بفهرسة
معجمه على الحروف الهجائية.
ثالثا: لعل دراسة التراث الجغرافي العربي وتقييمه والتعرف على معطياته
وإدراك مكانته في تاريخ تطور الفكر الجغرافي يتطلب أولا معرفة الظروف التاريخية
التي نشأ فيها هذا التراث، والمراحل التي اجتازها أثناء تطوره، فمن المعلوم أن
المعارف العربية قبل الإسلام كانت محدودة ومنحصرة في حقول معينة أهمها اللغة
والشعر وأنساب القبائل التي تمثل جانبا من جوانب التأريخ، وبالطبع فلم يكن لديهم
معرفة جغرافية منظمة فخرجت المعاجم سالفة الذكر. (شاكر خصباك: الجغرافيا عند
العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طـ1، 1986م، ص5).
والسؤال المُلح هنا هل نحن -داخل منظومة البحث العلمي- في حاجة
إلى كشاف جغرافي منظم أو معجم جغرافي جديد يوضح لنا المواضع الجغرافية وتوابعها أو
المسمى الذي أُطلقه دائما تحت عنوان: "بلْدان البُلدان"؛ بحيث يُذكر فيه
توابع الموضع الجغرافي من مدن، وتوابع كل مدينة من مراكز، وتوابع المراكز من القرى
بحيث يتجلى لنا معجمًا أو كشافًا للمواضع الجغرافية وتوابعها؟ الإجابة: نعم،
لماذا؟
لقد خرجت العديد من الدراسات العلمية –خاصة رسائل الماجستير
والدكتوراة- التي تناولت موضعًا جغرافيًا في عنوانها مثل "الحياة العلمية في
خراسان" أو "الدول الصفارية في سجستان" دونما إحاطة كاملة
بالجغرافيا المكانية للموضع المذكور في دراستهم التي قامت عليها الدراسة والأمثلة
على ذلك كثير في رسائل الماجستير والدكتوراة، رغم تنوال الباحث لتمهيد فيه يبحث عن
جغرافية الموضع، إلا أنه يجعله مستقلا بعيدا عن الدراسة.
وحينما تناولت هذه الدراسات الحديثة الحياة العلمية في موضع من
المواضع مثل "خراسان" أو "قرطبة" –على سبيل المثال- تناول
الباحث فيها الموضع الجغرافي المذكور فحسب اعتمادا على ذكره بالمصادر فحسب دونما
أن يحيط علمًا بإن "قرطبة" تتبعها مواضع جغرافية من قرى ومدن؛ لذا نحسب
أن الدراسات –من هذا النوع- قُدمت في صورة غير مكتملة إن صح التعبير.
وكان الواجب عليه أن يعلم أن الموضع يتبعه مواضع، والمثال
الأوضح في ذلك عن طريق تحديد جغرافية المكان، أن دراسة الحياة العلمية في موضع
كقرطبة اقتصرت فيه الدراسة على علماء قرطبة هو في حد ذاته خطأ منهجي واضح، إذ
هنالك مواضع تتبعها، ومن ثم فإن جملة من علماء هذا الموضع وسكانه قد تناسوا من
الدراسة، فخرجت بذلك غير مكتملة الصورة.
من هنا تتجلى الحاجة المُلحة إلى وضع كشاف "بلدان البلدان"،
يُبين توابع المواضع الجغرافية ويبرز فيه جوانب المقارنة لذكرها عند الجغرافيين
العرب. كما تتجلى أهمية هذا الكشاف في تحديد الموضع الجغرافي وتوابعه في الاطروحة
البحثية المقترحة للدراسة، وتمكين الباحث من تقديم صورة مكتملة إلى حد ما في
دراسته العلمية.
وقد اجتهدت بفضل الله تعالى قدر المستطاع فانتهيت من أحد أقسام
الكشاف يشمل المواضع الجغرافية المتبوعة بالأندلس.
· تقسيمات الكشاف:-
قسمت الكشاف إلى بابين حسب ما ورد من توابع المواضع: الباب
الأول تناول "الكور" وتوابعها، والباب الثاني: تناول "المدن"
وتوابعها، وقد تم وضع هذا التقسيم بعد الانتهاء من أعمال البحث والفحص.
كما ضم الكشاف فهارس متعددة، وضعت في نهايته؛ من أهمها: فهرس
المواضع الجغرافية وتوابعها، ثم فهرس الكور، فهرس المدن، فهرس القرى، فهرس الحصون،
فهرس القلاع، فهرس الأقاليم، وغيرها من الفهارس.
وضم الكشاف أيضًا مجموعة من الخرائط التوضيحية التي تُعين
الباحث في توضيح تصوراته في الدراسة العلمية، وخير موضع اخترنا منه هذه الخرائط هو
أطلس تاريخ الاسلام للباحث الفذ والمؤرخ العالم الراحل حسين مؤنس.
وذُكرت ترجمة مختصرة عن الموضع الجغرافي مع مراعاة ذكره
متسلسلا تحت الموضع الرئيس كالكورة والمدينة. ولم نجعل الترجمة للموضع تناولا إلا
من حيث الجانب الجغرافي فحسب. دونما أن نجعل ترجمة الموضع تناولا لتاريخه فهو ليس
محل الكشاف، وليس من أجل ذلك تم إعداده.
· منهج الدراسة والعرض بالكشاف:-
تعتمد الدراسة على منهج تقصي الموضع الواحد في المعاجم
الجغرافية قدر الإمكان والتأكد من نسبته إلى الكورة أو المدينة، ونوثق ذلك الهامش،
مع توضيح الاختلاف إن وجد لدى المصدر المنقول عنه بشأن الموضع، فقد تأتي بعض
المواضع مختلف في نسبتها إلى الموضع، وفي هذه الحالة نبين ذلك في الهامش، وفي
الوقت نفسه نثبت الاتفاق على الموضع ونسبته.
وقد تم عمل فهرست الكشاف بشكل شجري يتيح للمطلع عليه بداية
معرفة توابع المواضع الجغرافية، فإذا ذكرت الكورة أو المدينة الواحدة، ذُكر معها
توابعها من المواضع الجغرافية الأخرى.
***
إننا نبحث عن "الكشاف الجغرافي المفقود" لكي نتابع
مسيرة الفكر الجغرافي، وهي تخطو خطواتها المتأنية، ولكي نطالع الاجتهاد الجغرافي
الرشيد، في كل مرحلة من مراحل التحرك البناء إلى الأفضل، وفي الاتجاه الصحيح.
سيقدم هذا الكشاف الموضوعي لقارئ العربية، في شكل كتاب متكامل
قدر الإمكان، ويسعدني أن أجتهد لكي يضاف "كشاف بلدان البلدان" -الذي
سيكتمل قريبا بمشيئة الله تعالى- إلى رصيد المدرسة الجغرافية العربية المعاصرة.
تبعًا للضرورة الملحة التي تبحث عنه، والذي سيتم تبيانه على مراحل.
ونسأل الله التوفيق
والسداد، والحمد لله رب العالمين.
Tags:
المؤلفات